«كرة القدم بين الشمس والظل» لإدواردو غاليانو: حروب خفيّة لن تنتهي

«لن تنقاد لأحدنا ما لم يعاملها برقة. عندما تأتي أسيطر عليها فتنقاد لي. قد تمضي بعيداً عني أحياناً، فأقول لها: تعالي يا بنيتي، فتأتي… إنني أعاملها برقة شديدة مثلما أعامل امرأة… احترموها إنها طفلة، ولا بد من معاملتها بكثير من الحب». (اللاعب البرازيلي ديدي)

«تعلمت أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها. وقد ساعدني ذلك كثيراً في الحياة، خصوصاً في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة». (ألبير كامو)

«كرة القدم مناسبة لكيلا يفكر الناس بأشياء أخرى خطيرة». (فيثنتي كالديرون، رئيس نادي أتليتكو مدريد)

كرة القدم.. اللعبة الأشهر في العالم، التي لن تجد أي شخص لم يحاول لعبها، بل يحلم بأن يكون أحد مشاهيرها، وعندما لا يحالفه الحظ يواصل اللعب بطريقة أخرى، بأن يكتفي بأن يكون بين جمهور المشجعين لهذا الفريق أو ذاك، وصولاً إلى درجة من التعصب تتفوق على التعصب للأديان. وبخلاف المسابقات المحلية والدولية يأتي (كأس العالم) ليكون هو الاحتفالية الكبرى لهذه اللعبة، أو أرض المعارك الشهيرة، بين الدول في لعبة تبدو رياضية وعادلة من بعيد، لكنها في حقيقتها مُحمّلة بالكثير من المؤامرات والنوايا غير الطيبة. ويأتي كتاب إدواردو غاليانو (1940 ــ 2015) «كرة القدم بين الشمس والظل» ليكشف الكثير عن مسارات هذه اللعبة وتاريخها، منذ بدايات كأس العالم عام 1930، وحتى بطولة عام 1994. إلا أنه لم يزل صالحاً ومفسراً لكل ما يحيط هذا الهوس باللعبة الأولى على مستوى (الكرة) الأرضية.

الاستعمار والعنصرية

«عند سور مستشفى للمجانين في ميدان مقفر في بوينس آيرس، كان بعض الفتيان الشقر يتقاذفون كرة بأقدامهم. سأل طفل: مَن هؤلاء؟ فأخبره أبوه: أنهم مجانين.. إنكليز مجانين». أتى المُستعمِر إلى هذه البلاد بثقافته وهواياته، وكانت كرة القدم أحد أهم هذه الهوايات، التي فسرتها الشعوب المُستعمَرة وقتها بأنهم مجموعة من المجانين، لكن اللعبة استطاعت في وقت لاحق أن توحد هؤلاء المضطهدين على الدوام، وأن يحاولوا من خلالها إثبات جدارتهم وتفوقهم على أصحاب اللعبة أنفسهم». وبفضل لغة كرة القدم التي بدأت تتحول إلى لغة كونية كان العمال المطرودون من الحقول يتفاهمون على أكمل وجه مع العمال المطرودين من أوروبا. فكان اسبرانتو الكرة يوحد أبناء البلاد الفقراء مع العمال المهاجرين الذين يجتازون البحر، قادمين من فيغو، ولشبونة ونابولي وبيروت أو من بلاد الصرب حالمين بتحقيق حلمهم الأمريكي، وهم يبنون الجدران ويحملون آلات ثقيلة، ويخبزون الخبز أو يكنسون الشوارع».

لكن الأمر أصبح أسوأ مع الفئة المترفة من أصحاب البلاد، المتشبهين بالمحتل دوماً، والمتأففين من مواطنيهم الأقل درجات. فكيف لمثل هؤلاء أن يُشاركوهم لعبتهم المفضلة.. «نحن الذين لنا مكانة في المجتمع نجد أنفسنا مضطرين إلى اللعب مع عامل أو اللعب مع سائق… فممارسة الرياضة آخذة بالتحول إلى عقوبة، إلى تضحية، ولم تعد متعة على الإطلاق».

وجهة النظر هذه لم تتغير بدورها على الإطلاق، وإن كانت اتخذت صورا أخرى من التفرقة، حتى لو صعد أحد هؤلاء المنبوذين على الدوام واخترق المحظور وتفوق على السادة.

إدواردو غاليانو

الوطن والسياسة

في الدول الديكتاتورية لا توجد تفرقة بين الوطن والزعيم، هذه السمة التي تحاول دول أمريكا اللاتينية التخلص منها بالكاد، والتي لم تزل توصم الدول الموسومة بالعربية، فالوطن والزعيم شيء واحد لا ثالث له، والويل لمن يحاول الخروج على هذا النظام. يذكر غاليانو أن «فصيلة كرة القدم الإيطالية ربحت مونديالي 1934 و1938 باسم الوطن وموسوليني، وكان لاعبوها يبدؤون وينهون كل مباراة بصرخة تحيا إيطاليا، وتحية الجمهور ببسط راحاتهم المرفوعة… وفـي اليوم التالي ارتدى الفائزون الزي العسكري فـي المراسم الاحتفالية التي ترأسها الدوتشي. وقبل ذلك بقليل كانت الصحافة الرسمية الإيطالية قد احتفلت بھزيمة المنتخب البرازيلي.. (نحيي فوز إيطاليا الذكية على قوة الزنوج الھمجية)». وحتى في ظل الديمقراطيات المزعومة في بعض البلاد الأوروبية، يتم استغلال اللعبة لتحقيق مآرب أخرى، وفي إيطاليا أيضاً.. «كسب صاحب نادي ميلان الانتخابات الإيطالية تحت شعار (قوة إيطاليا) المأخوذ من مدرجات ملاعب كرة القدم، لقد وعد بيرلسكوني بإنقاذ إيطاليا مثلما أنقذ نادي ميلان، الفريق الخارق وبطل الجميع».

ستموتووووون

ويذكر غاليانو ما لحق بلاعبي أوكرانيا ومصيرهم عندما هزموا فريق هتلر «هناك نصب في أوكرانيا يذكّر بلاعبي فريق دينامو كييف في 1942، ففي أوج الاحتلال الألماني اقترف هؤلاء اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر، وكان الألمان قد حذروهم.. إذا ربحتم ستموتون. فدخلوا الملعب وهم مصممون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، لكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة، فأعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب بعد انتهاء المباراة مباشرة».

المثقفون وكامو

يزدري المثقف لعبة كرة القدم، ويراها لعبة القطيع، أما اليساري منهم فيراها خطة إمبريالية لاستغلال الشعوب، وهي

بالفعل ما يستحقه الشعب الغافل. إلا أن ألبير كامو كان له موقف آخر من اللعبة.. «في

عام 1930 كان إلبير كامو هو القديس بطرس الذي كان يحرس مرمى فريق كرة القدم في جامعة الجزائر. كان قد اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته، لأنه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقل. فكامو ابن الأسرة الفقيرة لم يكن قادراً على ممارسة ترف الركض في الملعب… وتعلم كذلك أن يكسب دون أن يشعر بأنه إله، وأن يخسر دون أن يشعر بأنه قمامة، وهذه حكمة شاقة».

الفساد

ومن مبدأ المحتل إلى مبدأ الفساد تصبح ساحات كرة القدم هي المكان الأمثل لمثل هذه المعارك، فكرة القدم في نهاية القرن ترتبط بالسوق والممولين، فأهم الأندية الأوروبية شركات تنتمي إلى شركات أخرى. ففي عام 1974 وبعد تسلق طويل احتل (جان ماريه هافيلانج) قمة الفيفا، وأعلن «لقد جئت لأبيع سلعة اسمها كرة القدم». فهو «يحكم بلداناً أكثر من الأمم المتحدة، ويسافر أكثر من البابا، ولديه من الأوسمة أكثر مما لدى أي بطل حربي». ويذكر غاليانو حكاية رجل آخر من إسبانيا اسمه (خيسوس) كان قد أمضى وراء القضبان سنتين وثلاثة أشهر نتيجة تسببه في انهيار مبنى ومقتل اثنين وخمسين شخصاً ـ 15 يوما عن كل ميت ــ إلى أن أعفى عنه فرانكو، وواصل الرجل مسيرته في خدمة الوطن وإعماره. وبعد فترة تحول إلى صاحب نادي (أتليتكو مدريد).. «وبفضله أصبح شخصية تلفزيونية وصاحب شعبية كبيرة، وفي 1991 جرى انتخابه عمدة لمدينة ماربيا، وقد تعهد في حملته الانتخابية بأن ينظف المدينة من المتشردين والسكارى ومدمني المخدرات، لأنها مركز سياحي مكرس للتبذير الصحي، الذي يمارسه بعض الشيوخ العرب، ورجال المافيا العالمية المتخصصين في تجارة الأسلحة والمخدرات». وحتى يستمر مسلسل الفساد، وتتمادى الأنشطة، وبالتالي الأموال الطائلة التي لا رقيب عليها، يأتي مونديال 1986 وقد احتج العديد من اللاعبين لأن المباريات الرئيسية كانت تقام في الظهيرة، لكن هذه الظهيرة في المكسيك هي وقت الغروب في أوروبا، وهو التوقيت الذي يناسب التلفزيون الأوروربي. ويأتي هافيلانج ديكتاتور اللعبة ليحسم القضية.. «فليلعبوا أو يطبقوا أفواههم».

مجرد سلعة

ويأتي زمن تسليع اللاعبين، فهم مجرد إعلان متحرك تتسابق الشركات والكيانات الاقتصادية في شراء حقوق هذا الإعلان، وعلى اللاعب أن يرضخ، وكأنه شكل آخر من أشكال العبودية اللطيفة.. في منتصف الخمسينيات وقع نادي (بينارول) أول عقد لطباعة إعلانات على قمصان فريقه، وقد ظهر عشرة لاعبين وعلى صدورهم اسم إحدى الشركات، أما أبدوليو فاريلا، فقد لعب بالقميص المعهود دون إعلان، وقد أوضح ذلك بالقول: «فيما مضى كانوا يعلقون لنا نحن الزنوج حلقة في أنفنا، لكن ذلك الزمن مضى ولن يعود». ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتحول اللاعب إلى ممثل فاشل على المسرح.. «فعندما يتأخر أحد اللاعبين طويلاً في ربط حذائه، لا يكون السبب في ذلك خراقة أصابعه، وإنما خبث جيبه، لأنه أثناء ذلك يعرض ماركة أديداس أو نايك أو ريبوك في قدميه». وفي مباراة وديّة لعبها كارلوس منعم رئيس الأرجنتين مع مارادونا، وقد ارتدى قميص المنتخب الأرجنتيني. يتساءل غاليانو.. «عما إذا كان الرجل هو رئيس الأرجنتين، أم رئيس شركة رينو التي كان يحمل شعارها على صدره؟!

ستبقى مدهشة

«فمهما برمجها التكنوقراطيون، ومهما احتكرها الأقوياء، ستبقى كرة القدم ترغب في أن تكون فن الارتجال، فالمستحيل يقفز إلى الواجهة، حيث لا ينتظره أحد، فترى القزم يلقن المارد درساً، أو ترى زنجياً هزيلاً يبعث الجنون في الرياضي الإغريقي ذي الجسد المنحوت».

Leave A Reply